الوضع المظلم
السبت ٠٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
  • تقنيات السرد التصويري في رواية "نساء السل".. (السرد السّينمائيّ روائياً)

تقنيات السرد التصويري في رواية
رواية "نساء السل"

عن دار ممدوح عدوان صدرت رواية "نساء السل" للشاعر والروائي السوري "ريبر يوسف"، بعد أن صدر له العديد من المجموعات الشعرية والكتب النثرية والروايات، ويحمل العمل الجديد رؤية فنية واعية تتصل بفلسفة الكتابة، بلغة سردية مكثفة موحية بشمولية التقنية، تندرج في إطار عمليّة التّجريب، وترمي إلى كسر الكتابة النمطيّة.

"نساء السل" عنوان من العناوين ذات الدلالة العميقة؛ فمن حيث الصيغة هو جملة اسمية تقريرية تثبت حقيقة لا تحتمل الشك أو الالتباس؛ فتكون الإحالة بذلك موضوعية، وعندئذ يتحول العنوان إلى شيفرة إخبارية أولى تدعمه داخل النص شيفرات عديدة، فالنساء تحيل إلى مرض السل، ومرض السل بدوره يحيل على نساء مرضى بالسل؛ تنقلنا هذه العتبة النصية لأعمق مستوى من الفهم الظاهري إلى الوجودي، وجود الذات الأنثوية وربطها بمرض السل بطريقة جبرية؛ يستغرق به الموصوف ضمن حدّيه، ليستغرق ضمن حدي التاريخ وما ينسل منه، كأنما يُراد لها القول؛ إن اللّعنة حلّت عليها لأنها وجدت أصلاً دون أن يكون لها حرية الاختيار في هذا الحيز، فالأنثى تعيش مُختارةً ألا تختار.

تأطير:

يطرح العمل الروائي سؤالاً جوهرياً، أين تكمن بذرة العنف الأولى التي أودت بهذه المنطقة في الشرق من مجازر وإبادة بحق الإيزيديين؟ والجواب نستشفّه من المقولة المقتبسة لابن خلدون في صدارة الرواية "الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء"، كأنما التاريخ يعيد نفسه من جبال سنجار أيام الدولة العثمانية واضطهادهم للإيزيديين، إلى إبادتهم على يد المتطرفين الإسلاميين، في الزمن الحاضر.

فلاش 1:

يطرح العمل فكرة الزمن الضائع الذي يبحث عن ذاكرة تنقذه من براثن النسيان ليعيده إلينا حاضراً، لربما يكون في هذا خلاصاً لها.

إضاءة:

تبتدئ الحكاية من كهف في جبال ماردين، بين "كالو وسلتي" كأنهما آدم وحواء الحكاية، في تلك البقعة الجغرافية المعتمة، يشخص الراوي فتيل قنديله الأول ليضيء السرد بتؤدة؛ "خطوات الخيول تحت الأحمال نثرت نور القمر" ثم يسرد الصور المتلاحقة كأنما من كاميرا علوية تهبط إلى المكان، يستعرض شريط فيلم منسي من عصور غابرة مكتشف حديثاً. لنصل إلى الجملة القولية الأولى على لسان طفلة: "متى نصل يا عمّتي؟" ليتأخر الجواب على لسان كالو: "الشمس ستكشفنا للجنود العثمانيين...".

من الملاحظ أنه لا وجود لشخصية رئيسية واحدة؛ بل مجموعة من الشخصيات التي تبدو مثل كينونات اجتماعية مستقلة قائمة بذاتها تارة؛ فهي ليست صدى يعكس ملامح شخصية محورية، تلعب دوراً رئيساً في بناء الأحداث وتطورها، وتارة تبدو مجرّد أصوات اجتماعية يصرُّ السارد من خلال دورها الثانوي على أن تكون أصواتاً اجتماعيّةً يريد إثباتها وتأكيد وجودها، وهنا تكمن فرادة الطرح الدرامي إذ لم يلجأ إلى محاكاة نموذج جاهز؛ بل ابتدع طريقة جديدة في الكتابة السردية، من خلال حسّ فنّي يستوعب الواقع بتفاصيله وشموليته، ويصهر التناقض بين الأضداد بعضاً من أطرافها في إيقاع حيوي يلغي تشرذمها لتخلق هذا الواقع باستقلالية تختزل المسافة بين الذات وخارجها، بين الخطاب والواقع، والبدايات والنهايات. فكانت الرواية على شكل مشاهد مقسمة إلى أربعة أقسام وكل قسم مجزّأ إلى مقاطع أيضاً، يربطها المتن الدرامي المشدود بعناية وبقوة.

تمضي شخصيات الرواية عبر الحدود التركية لتصل إلى سوريا وسط تضاريس وعرة ومنعرجات زمنية تحاكي قسوة الطبيعية التي ارتبطت بذاكرة الشعب الإيزيدي؛ ليرجع بنا مشهد ولادة "سيرانه" في الغرفة الشمالية والتي من عاداتهم أن الأرملة تبقى أسيرة المنزل حتى تتزوج وتنفصل عن ابنتها، نجد الأم وقد وجدت خلاصها في مرض السل الذي لم يحرمها من ابنتها! هذا المشهد على قسوته يفتح جرحاً غائراً في صميم العادات والتقاليد.

وربما كان هذا هو ما جعل المشهد يحتفظ بكل هذه البساطة التي تخفي وراءها سرَّاً يجدر بالقارئ ألاَّ يضيّع الفرصة على نفسه في تحسّسه، وألاّ يدع المشهد الحيّ المثير يطغى على ما يخفيه الظاهر من القول. "النوافذ مسدودة باللبنات والطين".

عدسة شبه كروية:

وسم السارد الزمن الروائي بروح الفعل المضارع، ما يحدث الآن، كأنما حركة الزمن تنتقل من الحاضر إلى المستقبل فتعود إلى الماضي؛ فيتشظّى الزمن بين الحدث والذاكرة، ما يحدث وما يُروى، وهنا يلغي الراوي فكرة الخلاص؛ كأن الحاضر والمستقبل معاً سجناء مرتهنين للماضي في فضاء الزمن للشخصية.

يبدع بخلق إيقاعات زمنية متنوعة تناغمت وروح الكاتب بين زمن القصة وزمن السرد، الاسترجاع والاستباق.

أما المكان الروائي فهو لا يحمل وجوداً حياديّاً أو موضوعيّاً إذ هو مفعم بالدّلالة، يبدع الراوي في الوقفة الوصفية بتأثيث ما حول الأحداث والشخصيات، يقوم برسمها بريشته كأنما ينقل اللوحة الحكائية إلى حالة تحثّك على الاستغراق في تفاصيل خطوطها ورسمها النوستالجي وحميميتها دون أن تقوم بإبطاء أو تعطيل وتيرة السرد، فالمكان مطبق على مؤثّثاته يشدّها إليه شدّاً، كما في المقطع الثاني من القسم الأول" منحنية الظهر أنفاسها كخرانق الأرانب في مرمى نظرات مريض، سلكت الدرب ومهرت ترابه بختمي قدميها، كلأت الريح في شالها المورّد، وجبل الغبار مع قطرات دموعها"

 فشعرية السرد هنا قائمة على أساس إعادة إنتاج الأحداث المسرودة فنيّاً وجمالياً، يستخدم فيها تقنية الاسترجاع التي تستدعي بروز الزمن الماضي في الزمن الحاضر السردي، فأغلب الأحداث الواردة في الرواية استحضرت من ماضٍ بعيد، ما يجعلنا نلمس تأثر الروائي بأساطير القرية وحميميته لها، والحنين للرجوع إليها، وإلى وجودها البكر.

فالسرد هنا يتوهّج بالشعرية؛ كأنه أرجحة سماوية تدفعك لأقصى علو ممكن لنقطة السكون، ثم تهبط بك فجأة فتجعلك ترى كل شيء بطريقة قوسية، تلامس قدميك أرض الواقع، فيرتسم المشهد بطريقة بسيطة كأنه طفل يقوم بخربشات على أرضية، ثم يندفع مرة أخرى للأعالي، إلى ذرى من الأحداث الموجعة فنراه ينوس بين الشاعرية القصوى وبين البساطة في التعبير بلسان طفل يروي الأحداث ويدونها في ذاكرته المتعبة. فهو يلجأ لتفعيل الذاكرة المكانية كأنما أصابعه احترقت نتيجة التماس بينه وبين نصّ الحكايات. تتماهى مع أسئلة الشخصيات البريئة مثلاً يسأل: "أين هي مصر؟" يأتيه جواب من مفردات وجدانية فقيرة؛ "كأن تذهب بين عامودا وشورك مشياً حتى تبلغ الخمسين عاماً".

كافة الشخصيات تبحث عن "الخلاص" وفيه يكتمل المغزى باكتمال الرمز، وفي هذا الحوار تكثيف فني له دلالات بعيدة في الحياة الاجتماعية التي تصاب بأزمة يفقد المجتمع فيها روحه ويعمى عن سبيل خلاصه، حتى يصبح المخلص في النهاية هو الفداء الذي يفدي حياة مجتمعه.

فلاش 2:

يطرح السرد فكرة اللّعب خارج التاريخ الذي يجد نفسه محاصراً بالهزيمة، تضعه في النهاية مهما كانت النتيجة المتوخاة في إطار الهزيمة الحتمية، على مبدأ المثل؛ "البحر داخل السمك والسمك داخل البحر".

أفلمة السرد:

يبدع الراوي في توصيف الجغرافيا المكانية التي تتقاطع مع زمن النص في صور حية دون أن تكون فوتوغرافية، كأنما نشاهد فيلماً في الخلفية، من مجموعة لوحات مقطعية، "ميكرو حكايات" استخدم الراوي تقنيات القفلة الموسيقية مع نهاية كل مقطع فنجده يقوم بنسخ النوتة الموسيقية المرفقة. كذلك الأهزوجة والأمثال والصلوات الخاصة والحكايات الشعبية التي تعيش مع الأجيال كجزء من الذات الجمعية، كأنها لقتل الاغتراب النفسي للشخصيات أو لغرض المحافظة على هوية الكائن من الزوال.

كما تكثر المفردات التي تقدح فتيل الذاكرة الشعبية مثل: "فانوس، أفراس، تنور". 

تشتبك القصص فيما بينها بطريقة رهيبة؛ يعرض المونولوج والتوصيف الباطني للنسوة، نصل إلى ذرى عديدة، لكن ثمة ذرة وهي متعلقة بـ"سيرانه" التي تبحث عن هويتها وخلاصها، تسترجع قصص "عيشانه وكالو وقاسو" في قرية "شورك"، وكانت تقصها على ابنتها "كليستان" الميتة وعلى زوجها المسجون في مكان مجهول، ثم تفكر في طفلتها الثانية في دمشق، "لا تسأل عن اسم ابنتها" فقد ارتابت من الأسماء. وهنا نلتقط المفارقة الدرامية بين طبيعة المكان من حيث هندسته وبعده التاريخي والاجتماعي وبين ملامح الشخصية الروائية وصعوبة الانسجام الكلي معه؛ إذ لا يمكن للشخصية أن تعيش خارج مكانها فهي ملتصقة به أشد الالتصاق وحتى وإن غادرته فيكون خروجاً مؤقتاً في انتظار العودة النهائية. إنّ المكان ليس للاستقرار ولا يحمل معنى الانتماء ولذلك فهو في علاقته بالشّخصيّة يتّصل بمعنى الرّحلة فالبطل الرّوائيّ يعيش أزمةً مع المكان ولا حلّ له إلا الرحيل الدائم.

توليف ناعم:      

يميل السارد إلى وصف المحسوس وما تراه العين، وفي غالب الأحيان يسمّي الأشياء التي يبصرها بأسمائها بدون ميل إلى المجاز، ثمة توليفة وهي تقنية جعلت الراوي في منزلة تطلّ على الواقع من خلف حجاب، يرى الواقع بإحساس رؤية الشخصية له؛ ثم يرى الواقع بهذا الإحساس في الوقت ذاته الذي يراه الواقع بالعين المجرّدة؛ وبقدرة فنيّة فائقة استطاع الراوي أن يختزل الزمن تدريجياً إلى أن يصل إلى حدّ إلغائه، وينقذ المشهد من براثن الزمان والمكان، فيجعل القارئ يحسّ فعلاً كأنّه وصل إلى ذلك المكان، أو سرى إليه في وضح النهار لما يمتلك من قدرة واعية تستطيع دائماً أن تخلق في القارئ حلم يقظة.

تقوية:           

تكثر الأسئلة دون أجوبة، في هذه الذروة الحاصلة من الرحلة الشاقة المليئة بالخيبات والانكسارات نجد من الواضح أن الكاتب كان على وعي بأن الإفصاح لا لزوم له في مثل هذه الحالات؛ ثمة فجوة يملؤها القارئ نيابة عن الكاتب الذي ترك هذه المهمة له مساهمة منه في قراءة المشهد، وهنا تدخل الرواية فنياً في نظرية الاستجابة من القارئ والتي أصبحت من أهم النظريات النقدية المعاصرة.

ندخل في حلم "سيرانه" نجد أن مجموعة من الجنود يقدّمون لها لحماً ويأمرونها بتناول الطعام ننتقل إلى هذا "لحم أجدادك تناولي لحمهم" ترى مجموعة من الأطفال والنساء المقيدين العرايا يطلبون باللغة الكردية "أنقذينا يا سيرانه" المشهد واضح وجلي بقسوته، كأنه رد فعل طبيعي المرض؛ "مستشفى السل في دمشق " سلمى؛ "الممرضة رأس العين". فالراوي يسمّي الأشياء بمسمّياتها ويغلّفها بالترميز الفائق، يقفل المشهد الروائي بمقطوعة موسيقية، كأنها عدسة الكاميرا تقفل المشهد. فمثلاً نجد هذه القفلة: "عندما خرجت سيرانه من مستشفى السل في دمشق، دندنت لنفسها هذه الأغنية في الباص، سمعتها زوجة "أسبيد" فالتفتت إليها.

في القسم الرابع "أضلاع الفراشات": يدخل العمل الروائي منحى آخر من الوضوح، فالكاتب يريد قول الحقيقة بعجرها وبجرها، دون تلكؤ، يستعرض رسالة "روكسان" التي تختزل تاريخ المنطقة وأحداثها الدامية "عزيزتي ماريانينا دوّنت ملحوظات لامتناهية، أنا بالفندق الآن، سأبقى بضعة أيام في "برلين"، سأزور بعد غد متحف "بيرغامون"، بي شغف لرؤية الآثار التي استخرجها البارون الألماني "ماكس فون أوبنهايم" من "تل حلف"، قرأت بأنهم رمّموا الآثار التي قصفت في الحرب العالمية الثانية بـ"برلين" وبأنهم افتتحوا قسماً خاصاً بآثار "رأس العين" مدينة الضحايا، ضحايا العثمانيين... كلنا هناك كنا حفيدات وأحفاد الضحايا: الأرمن والسريان والعرب والآشوريون والإيزيديون، والكرد المسلمون ... اجتمعت مصائرهم في مكان واحد صغير.

بكل وضوح وصراحة وصرامة نجد القص الروائي على لسان الشخصية يأخذ منحى آخر، من المباشر كأنه ينطق بالحقيقية التي لا تحتمل المجاز؛ فالممارسات التي تعرّض لها الإيزيديون كلها متشابهة من داعش إلى الجيش العثماني والفرس إلى الفصائل السورية مختلفة الانتماء، حيث يتم إعادة تدوير التاريخ كما حدث في موقعة "مرج دابق".

ثم يحطّم السارد جدار الزمن الرابع، لنكتشف أن رواية نساء السل ستكتب لتوثيق حالات من النساء اللواتي قضوا في السل في تلك المرحلة. لينتقل بنا إلى الإيزيديّات اللواتي كن سبايا لدى الدواعش وأنجبن بالإكراه. وكأنّما الكرة تصبح في ملعبنا، حيث يلغي دورنا باعتبارنا متفرّجين أو مراقبين.

مونتاج:

الكاتب في مختبره الأدبي بعقل بارد يقوم بتبديل العدسات عند كل مشهد يراه وكل صورة يقتطعها من الذاكرة الشعبية للإيزيديين، لا يعنيه شحذ العواطف ولا استجرارها، ويبقى محافظاً على مسافة أمان بينه وبين النص وبين القارئ، الرواية محبوكة بتقنية عالية يظهرها بلونية الأبيض والأسود.

مثل ساعاتي عتيق يعاين تفاصيل وتمفصلات التاريخ الغائب للمنطقة دون التدخل فيه لا يتبع منهجاً كلاسيكياً في السرد، نجده يوافق من ينظر بعين ثاقبة إلى تلك الحقبات المتلوّنة في تاريخ الإيزيديين، مع ما يحمله من وقائع كانت نتيجة لما حدث في الزمن السابق، وهنا تكمن عبقرية النص، يخالك وأنت تقرأ الأحداث السالفة كأنك في الوقت المضارع تشاهد ما يحدث الآن.

فأنت تقرأ التاريخ دون تأريخ؛ كأنك تقرأ نفسك؛ فالحدث هنا لا تكمن قيمته كونه حدثاً في منظومة الزمن الذي تحدده ساعة الحائط، بل استجابة شعورية داخلية خارجة عن إطار الزمن المألوف، تمتد وتتعمّق داخل إحساس الفرد لتلغي في النهاية وحدات الزمن المعروفة المتسلسلة من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.

تبئير:

من الواضح للقارئ أن الراوية كانت تعتلج وتتخمّر في نفس الكاتب منذ أمد طويل ولو أردنا حصر خلفيتها السياسية التاريخية الدينية التي تمتد بين حقبة من الاضطهاد ضد الشعب الإيزيدي من كافة الأطراف وصولاً إلى الحدث الأخير كنتيجة على يد داعش، ومن هنا يستدعي الكاتب في العناوين الفرعية أو العتبات النصية عبارات سوريالية بشكلها الميتافيزيقي الذي يناسب التعبير عن الواقع والذي أصبح ضرباً من ضروب الخيال.

الراوي يعرف ما يريد يقوم برسم المشهد وتدويره ثم إعطائه بعداً آخر، ثم بعد ذلك يقوم بقفله باستدارة شعرية مختزلة كأنها تصور بكثافة ما تراه العين، مثل استدارة القفل في باب الزنزانة، مثلاً بعد رسمه لمشهد البغل داخل الحوش وتوصيف المكان يختتم المشهد "كم أنت وحيدٌ يا دابة الله!".

تظهير:

السرد يؤسّس الحميمية بتلقائية طبيعية؛ والقص الحكائي يبعث على الحميمية تلك ويعزّزها، تلك التي كانت تميّز السرد الشفهي والتي كانت تخلق موقفاً حياً من التواصل والتبادل بين الراوي والمروي له مما يجعلها تقترب من الرواية الشفهية، كما لا تفرض على القارئ أن يكون ملماً بحضارة العصر التي تشكل جزءاً هاماً من خلفية الرواية.

مثلاً: والد "كالو" ذو الثانية عشر قتله الجنود العثمانيين لسبب تافه وبسيط وهو اعتراضه على تبوله قرب التنور القديم، وهنا الرمزية الفائقة الخبز خبز الشعوب حضارتها وتاريخها، يقول لك بطريقة ما أنهم متعصّبون جداً لتاريخهم على ما فيه من قمع ووحشية، يقول كالو لوسادته "وجودي من صلب عدمي فقط الحجارة والأشجار واليتامى لا يسألون"، مثل هذا المشهد له رجع الصدى لمشاهد متوازية في الوعي الجمعي للشعوب المقهورة، كذلك استدعاء الأهزوجة الشعبية الموازية للحدث.

نحن أمام رواية مذهلة في توظيف الرمز لأعلى صورة ممكنة ولأعمق نقطة في تاريخ الإيزيديين. من تلك البقعة المعتمة في بلاد المشرق.

كذلك نلاحظ الحميمية بين شخوص الرواية والبعد والجفوة من الأمكنة، حيث من الملاحظ الإكثار من الأسئلة التي تتعلق بالأمكنة، "ماهي مصر؟"، أو الهوية: "من هم العرب؟" يشبكهما باستدعاء الذاكرة، لتقوم يد الفعل المضارع ـالحدث الحاصلـ بعملية الغزل؛ فيظهر المشهد وكأنه يغزل أسلاك معادن بخيوط حرير فيتم إحالة الشكل، على هذا النحو يقول في مقطع: "ستكون هوية الطفل مزيجاً من قصص الأجداد وحاضرهم.. استمرار نسل الأجداد هو استمرار التمعن في صورة البؤس.. الصورة التي تنحر في قاعها عيون الناجين".

كائن فلاش باك:

يعتمد الراوي على أسلوبية إظهار الشخصيات ضمن السرد، من تلقاء نفسها، لا يبذل جهداً في التوصيف أو التمهيد أو التأطير، يدخلك في فلك متناه الأبعاد، بعفوية يظهر "الشاهد الغائب" بين ماردين ودمشق هذا التاريخ المأزوم والمربك للمؤرخ، بمهارة يقوم بتقريب الأشياء وإبعادها، حين تتعلق القضية بالشخصية.

يحمّل كل شخصية من هذه الشخصيات الجزء الغائب منه، ونجده واضحاً مع شخصية نايف؛ إذ يهاجر "نايف" من الشمال إلى الجنوب، وقد ترسّبت في لا وعيه قصّة الاستعمار الطويل، وتجد متنفّساً لها من خلال سلوك معقّد يجسدّ نفسه في صورة تتجاوز التأويل، وعند العودة إلى الجنوب تترسّب هذه الصورة في لا وعيه، وتظل مكبوتة إلى أن تفور في أعماقه، لتظلّ سرَّاً يتحدّى الهجرة والعودة العاديتين، ويفوق الدهشة الرومنسية أو الأسطورية التقليدية، تلك الدهشة التي ينتهي مفعولها بالتعرّف إلى الحدث نفسه من حيث مصدره أو سببه ومسبّباته.

إنها صور لأشباح ما تزال تطاردها لعنة التاريخ والجغرافيا، يوصلها الكاتب إلى متحف في ألمانيا! كنوع من حصاد الهشيم لمحصّلة الشعوب اليائسة والبائسة.

فالنهاية الحتمية لها، والحوارات بينها مصنوعة من شظايا، كأنه اعتمد سيناريو منفصلاً مختزلاً وكل ما يحدث هو ربط لتلك الشظايا ببعضها البعض، ربما ليحافظ على وجود التناقض في العلاقات المختلفة في حياة الشخصيات، تلك العلاقات التي تلحّ بسبب تناقضها على توفير التأويل وتظلّ مستمرة في إلحاحها دون جدوى.

عمق المجال:

تكمن قوة السرد في التوجّه الجاد نحو الشخصية، وصرف النظر عن الحدث كمركز للثقل في الرواية أصبحت الشخصية هي حلقة الوصل، وبذا صارت المسافة البؤرية قريبة وبعيدة في الوقت نفسه، معروفة وغير معروفة، ظاهرة وباطنة في آن واحد، وأصبح السرّ يُروى ولا يُقال ولا يُعرف، يُعرف ولا يوضَّح.

فشخصية "نايف" نجدها شخصية طارئة دائماً على المكان، لأنها تفتقد للهوية المنتمية إلى سيرورتها التاريخية. وأضحى يعرف الرعب منفصلاً عن مصدره، أي أإَّه أصبح مستوعباً للرعب دون أن يخشى فاعله، والرعب هنا أشبه بدهشة كبرى يضيع الخوف في مداها.

يقنعك العمل الروائي بأنه لا سبيل في الخلاص حتى في الخلاص ذاته، فالحدث نفسه لا يدع فرصة للوقوف والتأمل والخروج بنتيجة، مستمر في جدليته وانحداره التاريخي، سيظل يدهشنا بحدّته وشدّته لما له من تأثير سلبي في تاريخ شعب بأكمله إلى ما لا نهاية.

استطاع الكاتب بجدارة أن يبني حبكته الروائية على أسس فنية حديثة، استخدم فيها ببراعة تقنيات التصوير السردي وقام بتطويع أساليب تعبيرية جديدة مثل المقطوعات الموسيقية والمونتاج، وتشخيص الصور والكلمات، يعتبر هذا العمل مغامرة روائية جديدة تخرج على الأنماط السرديّة السّائدة، وتؤكّد أن الإبدّاع تجاوز مستمرّ ورفض للنّمط، يمكن تصنيفه ضمن رواد الرواية الجديدة.

ليفانت - عيسى الصيادي

 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!